الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ بِيَدِ اللَّهِ، و"الْمُهْتَدِي" وَهُوَ السَّالِكُ سَبِيلَ الْحَقِّ، الرَّاكِبُ قَصْدَ الْمَحَجَّةِ فِي دِينِهِ، مَنْ هَدَّاهُ اللَّهُ لِذَلِكَ، فَوَفَّقَهُ لِإِصَابَتِهِ. وَالضَّالُّ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لِطَاعَتِهِ، وَمَنْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِ فَهُوَ "الْخَاسِرُ": يَعْنِي الْهَالِكَ. وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى "الْخَسَارَةِ" وَ "الهِدَايَةِ"، و"الضَّلَالَةِ" فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. يُقَالُ مِنْهُ: ذَرَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} قَالَ: مِمَّا خَلَقْنَا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} قَالَ: خَلَقْنَا. قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، عَنْ عِتَابِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذَيمِةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَوْلَادُ الزِّنَا مِمَّا ذَرَأَ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ. قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، وَعُثْمَانُ الْأَحْوَلُ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَلِيسٍ لَهُ بِالطَّائِفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَرَأَ لِجَهَنَّمَ مَا ذَرَأَ، كَانَ وَلَدُ الزِّنَا مِمَّنْ ذَرَأَ لِجَهَنَّم» ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}، يَقُولُ: خَلَقْنَا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}، خَلَقْنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}، لِنَفَاذِ عِلْمِهِ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَرَأَهُمُ للَّهُ لِجَهَنَّمَ مِنْ خَلْقَهُ قُلُوبٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ بِهَا فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ بِهَا أَدِلَّتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا حُجَجَهُ لِرُسُلِهِ، فَيَعْلَمُوا تَوْحِيدَ رَبِّهِمْ، وَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِمْ. فَوَصَفَهُمْ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ: "لَا يُفْقَهُونَ بِهَا"، لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَتَرْكِهِمْ تَدَبُّرِ صِحَّةِ [نُبُوَّةِ] الرُّسُلِ، وَبُطُولِ الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}، مَعْنَاهُ: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يَنْظُرُونَ بِهَا إِلَى آيَاتِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ، فَيَتَأَمَّلُوهَا وَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، فَيَعْلَمُوا بِهَا صِحَّةَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُهُمْ، وَفَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ; فَوَصَفَهُمُ للَّهُ بِتَرْكِهِمْ إِعْمَالَهَا فِي الْحَقِّ، بِأَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا}، آيَاتِ كِتَابِ اللَّهِ، فَيَعْتَبِرُوهَا وَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَيَقُولُونَ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. )، [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 26]. وَذَلِكَ نَظِيرُ وَصْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 171].وَالْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ لِلتَّارِكِ اسْتِعْمَالَ بَعْضِ جَوَارِحِهِ فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مِسْكِينٌ الدَّارِمِيِّ: أَعْمَـى إِذَا مَـا جَـارَتِي خَرَجَـتْ *** حَـتَّى يُـوَارِيَ جَـارَتِي السِّـتْرُ وَأَصَـمُّ عَمَّـا كَـانَ بَيْنَهُمَـا *** سَـمْعِي وَمَـا بِالسَّـمْعِ مِـنْ وَقْـرِ فَوَصَفَ نَفْسِهِ لِتَرْكِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِمَاعَ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: وَعَـوْرَاءُ اللِّئَـامِ صَمَمْـتُ عَنْهَـا *** وَإِنِّـي لَـوْ أَشَـاءُ بِهَـا سَـمِيعُ وَبَـادِرَةٍ وَزَعْـتُ النَّفْـسَ عَنْهَـا *** وَقَـدْ تَئِقَـتْ مِـنَ الْغَضَـبِ الضُّلُـوعُ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ قَالَ: سَمِعَتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ بِهَا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا}، الْهُدَى {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} الْحُقَّ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ كَالْأَنْعَامِ سَوَاءً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ شَرًّا مِنَ الْأَنْعَامِ، فَقَالَ: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمُ الْغَافِلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ}، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَرَأَهُمْ لِجَهَنَّمَ، هُمْ كَالْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْبَهَائِمُ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَا تَفْهَمُ مَا أَبْصَرَتْهُ لِمَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ، وَلَا تَعْقِلُ بِقُلُوبِهَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، فَتُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا. فَشَبَّهَهُمُ للَّهُ بِهَا، إِذْ كَانُوا لَا يَتَذَكَّرُونَ مَا يَرَوْنَ بِأَبْصَارِهِمْ مِنْ حُجَجِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ آيِ كِتَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ الَّذِينَ ذَرَأَهُمْ لِجَهَنَّمَ، أَشَدُّ ذَهَابًا عَنِ الْحَقِّ، وَأَلْزَمُ لِطَرِيقِ الْبَاطِلِ مِنَ الْبَهَائِمِ، لِأَنَّ الْبَهَائِمَ لَا اخْتِيَارَ لَهَا وَلَا تَمْيِيزَ، فَتَخْتَارُ وَتُمَيِّزُ، وَإِنَّمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ تَهْرُبُ مِنَ الْمَضَارِّ، وَتَطْلُبُ لِأَنْفُسِهَا مِنَ الْغِذَاءِ الْأَصْلَحِ. وَالَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ مَا أَعْطَوْا مِنَ الْأَفْهَامِ وَالْعُقُولِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ، تَتْرُكُ مَا فِيهِ صَلَاحُ دُنْيَاهَا وَآخِرَتِهَا، وَتَطْلُبُ مَا فِيهِ مَضَارُّهَا، فَالْبَهَائِمُ مِنْهَا أَسَدُّ، وَهِيَ مِنْهَا أَضَلُّ، كَمَا وَصَفَهَا بِهِ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ صِفَتَهُمْ، الْقَوْمُ الَّذِينَ غَفَلُوا يَعْنِي: سَهْوًا عَنْ آيَاتِي وَحُجَجِي، وَتَرَكُوا تَدَبُّرَهَا وَالِاعْتِبَارَ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهَا، لَا الْبَهَائِمُ الَّتِي قَدْ عَرَّفَهَا رَبُّهَا مَا سَخَّرَهَا لَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: "الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ"، وَكُلُّ أَسْمَائِهِ حَسَنٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سَيْرَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا كُلَّهَا دَخَلَ الْجَنَّة» ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمُشْرِكِينَ. وَكَانَ إِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمَّوْا بِهَا آلِهَتَهُمْ وَأَوْثَانَهُمْ، وَزَادُوا فِيهَا وَنَقَصُوا مِنْهَا، فَسَمَّوْا بَعْضَهَا "اللَّاتِ" اشْتِقَاقًا مِنْهُمْ لَهَا مِنِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ "، وَسَمَّوْا بَعْضَهَا "الْعُزَّى" اشْتِقَاقًا لَهَا مِنِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "الْعَزِيزُ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِيَ عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، قَالَ: إِلْحَادُ الْمُلْحِدِينَ: أَنْ دَعَوْا "اللَّاتَ" فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قَالَ: اشْتَقُّوا "الْعُزَّى" مِنْ "الْعَزِيزِ"، وَاشْتَقُّوا "اللَّاتَ" مِنَ "اللَّهِ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (يُلْحِدُونَ). فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكَذِّبُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قَالَ: الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: يُشْرِكُونَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: (يُلْحِدُونَ) قَالَ: يُشْرِكُونَ. وَأَصْلُ "الْإِلْحَادِ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْجَوْرُ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ. ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مُعْوَجٍّ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَحْدِ الْقَبْرِ: "لَحْدٌ"، لِأَنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي وَسَطِهِ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَلْحَدَ فُلَانٌ يُلْحِدُ إِلْحَادًا"، و"لَحَدَ يَلْحَدُ لَحْدًا وَلُحُودًا". وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ "الْإِلْحَادِ" و"اللحْدِ"، فَيَقُولُ فِي "الْإِلْحَادِ": إِنَّهُ الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ، وَفِي "اللَّحْدِ" إِنَّهُ الرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ. وَكَانَ يَقْرَأُ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ: (يُلْحِدُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، إِلَّا الَّتِي فِي النَّحْلِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "يَلْحَدُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الرُّكُونِ. وَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَرَوْنَ أَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ جَاءَتَا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: (يُلْحِدُونَ)، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ "أَلْحَدَ يُلْحِدُ" فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: "يَلْحَدُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنْ "لَحَدَ يَلْحَدُ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ. غَيْرَ أَنِّي أَخْتَارُ الْقِرَاءَةَ بِضَمِ الْيَاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: "أَلْحَدَ"، لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ وَأَفْصَحُهُمَا. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، إِنَّهُ مَنْسُوخٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكُفْرِ، وَقَدْ نُسِخَ، نَسَخَهُ الْقِتَالُ. وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي قِتَالِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُلْحِدِينَ فِي أَسْمَائِهِ، وَوَعِيدٌ مِنْهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، [سُورَةُ الْحِجْرِ: 3] الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 66] وَهُوَ كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ مَهِّلِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ، فَسَوْفَ يُجْزَوْنَ، إِذَا جَاءَهُمْ أَجَلُ اللَّهِ الَّذِي أَجَّلَهُمْ إِلَيْهِ، جَزَاءَ أَعْمَالِهِمُ لَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ، وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ الْخَلْقِ الَّذِينَ خَلَقْنَا "أُمَّةٌ"، يَعْنِي جَمَاعَةً "يَهْدُونَ"، يَقُولُ: يَهْتَدُونَ بِالْحَقِّ {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، يَقُولُ: وَبِالْحَقِّ يَقْضُونَ وَيُنْصِفُونَ النَّاسَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ذُكِرُ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذِهِ أُمَّتِي! قَالَ: بِالْحَقِّ يَأْخُذُونَ وَيَعْطُونَ وَيَقْضُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}... حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَهَا: هَذِهِ لَكُمْ، وَقَدْ أُعْطِيَ الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 159].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَدِلَّتِنَا وَأَعْلَامِنَا، فَجَحَدُوهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرُوا بِهَا، سَنُمْهِلُهُ بِغِرَّتِهِ وَنـُزَيِّنُ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَنَّهُ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَى نَفْسِهِ مُحْسِنٌ، وَحَتَّى يَبْلُغَ الْغَايَةَ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُ مِنْ الْمَهَلِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ بِأَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ، فَيُجَازِيهِ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا قَدْ أَعَدَّ لَهُ. وَذَلِكَ اسْتِدْرَاجُ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَأَصْلُ "الِاسْتِدْرَاجِ" اغْتِرَارُ الْمُسْتَدْرَجِ بِلُطْفٍ مِنِ [اسْتَدْرَجَهُ]، حَيْثُ يَرَى الْمُسْتَدْرَجُ أَنَّ الْمُسْتَدْرِجَ إِلَيْهِ مُحْسِنٌ، حَتَّى يُوَرِّطَهُ مَكْرُوهًا. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأُؤَخِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. [وَأَصْلُ "الْإِمْلَاءِ" مِنْ قَوْلِهِمْ: "مَضَى عَلَيْهِ مَلِيٌّ، وَمِلَاوَةٌ وَمُلَاوَةٌ]، وَمَلَاوَةٌ" بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ وَالْفَتْحِ "مِنَ الدَّهْرِ"، وَهِيَ الْحِينُ، وَمِنْهُ قِيلَ: انْتَظَرْتُكَ مَلِيًّا. لِيَبْلُغُوا بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبِّهِمْ، الْمِقْدَارَ الَّذِي قَدْ كَتَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ ثُمَّ يَقْبِضَهُمْ إِلَيْهِ. {إِنَّ كَيْدِي}. وَالْكَيْدُ: هُوَ الْمَكْرُ. وَقَوْلُهُ: (مَتِينٌ)، يَعْنِي: قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [عَدَلْنَ عُـدُولَ الناسِ وَأَقْبـَحُ] يَبْتَـلِي *** أَفَـانِينَ مِنَ أُلْهُـوبِ شَـدٍّ مُمَـاتِنِ يَعْنِي: سَيْرًا شَدِيدًا بَاقِيًا لَا يَنْقَطِعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْ لَمْ يَتَفَكَّرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَيَتَدَبَّرُوا بِعُقُولِهِمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَنَا الَّذِي أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِمْ، لَا جِنَّةَ بِهِ وَلَا خَبَلَ، وَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ هُوَ [الرَّأْيُ] الصَّحِيحُ، وَالدِّينُ الْقَوِيمُ، وَالْحَقُّ الْمُبِينُ؟ وَإِنَّمَا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا قِيلَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الصَّفَا، فَدَعَا قُرَيْشًا، فَجَعَلَ يَفْخِّذُهُمْ فَخْذًا فَخْذًا: "يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ!" فَحَذَّرَهُمْ بِأَسَّ اللَّهِ، وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لِمَجْنُونٌ! بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ أَوْ: حَتَّى أَصْبَحَ!" فأَنَـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}». وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: مَا هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ يُنْذِرُكُمْ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، إِنْ لَمْ تُنِيبُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مُبِينٌ)، قَدْ أَبَانَ لَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْذَارُهُ مَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْ لَمْ يَنْظُرْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، وَفِيمَا خَلَقَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ، وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، وَمِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ وَالدِّينُ الْخَالِصُ إِلَّا لَهُ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَبِأَيِ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، يَقُولُ: فَبِأَيِّ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرِ تَرْهِيبٍ بَعْدَ تَحْذِيرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْهِيبِهِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي آيِ كِتَابِهِ، يُصَدِّقُونَ، إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ إِعْرَاضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، التَّارِكِي النَّظَرَ فِي حُجَجِ اللَّهِ وَالْفِكْرَ فِيهَا، لِإِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ هَدَاهُمُ للَّهُ لَاعْتَبَرُوا وَتَدَبَّرُوا فَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ; وَلَكِنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا وَمَنْ أَضَلَّهُ عَنِ الرَّشَادِ فَلَا هَادِيَ لَهُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَدَعُهُمْ فِي تَمَادِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَتَمَرُّدِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، يَتَرَدَّدُونَ، لِيَسْتَوْجِبُوا الْغَايَةَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَأَلِيمِ نَكَالِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ، فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ! فَقَالَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بَكِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ جَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ، وَشُمُولُ بْنُ زَيْدٍ، لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا مَتَى السَّاعَةُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا تَقُولُ، فَإِنَّا نَعْلَمُ مَتَى هِيَ؟ فأَنَـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ مِنْ شَأْنِ السَّاعَةِ حَتَّى نـَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فأَنَـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا كَانُوا مِنَ الْيَهُودِ ; وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا يُجَوِّزُ قَطْعَ الْقَوْلِ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذاً: يَسْأَلُكَ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؟ يَقُولُ: مَتَى قِيَامُهَا؟ وَمَعْنَى "أَيَّانَ": مَتَى، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: أَيَّـانَ تَقْضِـي حَـاجَتِي أَيَّانَـا *** أَمَـا تَـرَى لِنُجْحِهَـا إِبَّانَـا وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (مَرْسَاهَا)، قِيَامُهَا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَرْسَاهَا اللَّهُ فَهِيَ مُرْسَاةٌ"، و"أَرْسَاهَا الْقَوْمُ"، إِذَا حَبَسُوهَا، و"رَسَتْ هِيَ، تَرْسُو رُسُوًّا". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}: يَقُولُ مَتَى قِيَامُهَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}: مَتَى قِيَامُهَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مُنْتَهَاهَا وَذَلِكَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ مَعْنَى مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: "قِيَامُهَا"، لِأَنَّ انْتِهَاءَهَا، بُلُوغُهَا وَقْتَهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ: الْحَبْسُ وَالْوُقُوفُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، يَعْنِي: مُنْتَهَاهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ سَائِلِيهِ عَنِ السَّاعَةِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ قِيَامِهَا إِلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَأَنَّهُ لَا يُظْهِرُهَا لِوَقْتِهَا وَلَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ جَلَّ ذِكْرِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، يَقُولُ: عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، هُوَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يُجَلِّيهَا}: يَأْتِي بِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِيَ حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا يُجَلِّيهَا}، قَالَ: لَا يَأْتِي بِهَا إِلَّا هُوَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، يَقُولُ: لَا يُرْسِلُهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثَقُلَتِ السَّاعَةُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يَعْرِفُوا وَقْتَهَا وَمَجِيئَهَا، لِخَفَائِهَا عَنْهُمْ، وَاسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِعِلْمِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلَهُ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، يَقُولُ: خَفِيَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَمْ يَعْلَمْ قِيَامَهَا مَتَى تَقُومُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، قَالَ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهَا كَبُرَتْ عِنْدَ مَجِيئِهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، فِي قَوْلِهِ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، يَعْنِي: إِذَا جَاءَتْ ثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ. يَقُولُ: كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِيَ حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قَالَ: إِذَا جَاءَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ، وَكَانَ مَا قَالَ اللَّهُ ; فَذَلِكَ ثِقَلُهَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي "ثَقُلَتْ": عَظُمَتْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أَيْ: عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثَقُلَتِ السَّاعَةُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَهْلِهَا، أَنْ يَعْرِفُوا وَقْتَهَا وَقِيَامَهَا; لِأَنَّ اللَّهَ أَخْفَى ذَلِكَ عَنْ خَلْقِهِ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، وَأَخْبَرَ بَعْدَهُ أَنَّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بَغْتَةً، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى: أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْضًا خَبَرًا عَنْ خَفَاءِ عِلْمِهَا عَنْ الْخَلْقِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا تَجِيءُ السَّاعَةُ إِلَّا فَجْأَةً، لَا تَشْعُرُونَ بِمَجِيئِهَا، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، يَقُولُ: يَبْغَتُهُمْ قِيَامُهَا، تَأْتِيهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، قَضَى اللَّهُ أَنَّهَا لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ، وَالرَّجُلُ يُخَفِّضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَسْأَلُكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَنِ السَّاعَةِ، كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا. [وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {حَفِيٌّ عَنْهَا} ]. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ. وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: "عَنْهَا" التَّقْدِيمُ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، يَقُولُ: كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةٌ، كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَا سَأَلَ النَّاسُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ، اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلِكًا وَلَا رَسُولً. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً، فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ! فَقَالَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}: أَيْ حَفِيٌّ بِهِمْ. قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: يَا مُحَمَّدُ، أَسِرَّ إِلَيْنَا عَلِمَ السَّاعَةِ، لِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ لِقَرَابَتِنَا مِنْكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، وَهَانِئُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: حَفِيٌّ بِهِمْ حِينَ يَسْأَلُونَكَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: قَرِيبٌ مِنْهُمْ، وَتَحَفَّى عَلَيْهِمْ قَالَ: وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ. قَالَ: قَرِيبٌ مِنْهُمْ، وَتَحَفَّى عَلَيْهِمْ قَالَ: وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ، فَتُحَدِّثُهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: كَأَنَّكَ قَدِ اسْتَحْفَيْتَ الْمَسْأَلَةَ عَنْهَا فَعَلِمْتَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، اسْتَحْفَيْتَ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتَهَا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: اسْتَحْفَيْتَ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتَ وَقْتَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا. قَالَ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: كَأَنَّكَ تَعْلَمُهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِيَ عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، كَأَنَّكَ عِنْدَكَ عِلْمًا مِنْهَا {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ بَعْضِهِمْ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} قَالَ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا. وَقَالَ: أَخْفَى عِلْمَهَا عَلَى خَلْقِهِ. وَقَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، [سُورَةُ لُقْمَانَ: 34] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِيَ مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، يَقُولُ: كَأَنَّكَ يُعْجِبُكَ سُؤَالُهُمْ إِيَّاكَ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}. وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، يَقُولُ: لَطِيفٌ بِهَا. فَوَجَّهَ هَؤُلَاءِ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، إِلَى حَفِيٍّ بِهَا، وَقَالُوا: تَقُولُ الْعَرَبُ: "تَحَفَّيْتُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ"، و"تَحَفَّيْتُ عَنْهُ". قَالُوا: وَلِذَلِكَ قِيلَ: "أَتَيْنَا فُلَانًا نَسْأَلُ بِهِ"، بِمَعْنَى نَسْأَلُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهَا فَتَعْلَمُهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: {حَفِيٌّ عَنْهَا}، وَلَمْ يَقُلْ: "حَفِيٌّ بِهَا"، إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ قِيلَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَفَاوَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ الْبَشَاشَةُ لِلْمَسْئُولِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَالْإِكْثَارُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ، وَالسُّؤَالُ يُوصَلُ بِـ "عَنْ" مَرَّةً، وَبِـ "الْبَاءِ" مَرَّةً. فَيُقَالُ: "سَأَلْتُ عَنْهُ"، و"سَأَلْتُ بِهِ". فَلَمَّا وَضَعَ قَوْلَهُ: "حَفِيٌّ" مَوْضِعَ السُّؤَالِ، وَصَلَ بِأَغْلَبِ الْحَرْفَيْنِ اللَّذَيْنِ يُوصَلُ بِهِمَا "السُّؤَالُ"، وَهُوَ "عَنْ"، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سُؤَالَ حَفِيٍّ عَنْ أَخِيهِ كَأَنَّهُ *** بِذِكْرَتِهِ وَسْنَانُ أَوْ مُتَوَاسِنُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِسَائِلِيكَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ وَحِينَ مَجِيئِهَا: لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ، وَلَا عِلْمَ بِهِ إِلَّا [عِنْدَ] اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، بَلْ يَحْسَبُونَ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِسَائِلِيكَ عَنِ السَّاعَةِ: " {أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟}" {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}، يَقُولُ: لَا أَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِي، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ يَحِلُّ بِهَا عَنْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْلِكَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ يُقَوِّيَنِي عَلَيْهِ وَيُعِينَنِي {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}، يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، يَقُولُ: لَأَعْدَدْتُ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْرِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الْخَيْر" الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} قَالَ: الْهُدَى وَالضَّلَالَةُ {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} قَالَ: "أَعْلَمُ الْغَيْب"، مَتَى أَمُوتُ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}: قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ وَاتَّقَيْتُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: " {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}" لَأَعْدَدْتُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ مِنَ الْمُخَصِّبَةِ، وَلَعَرَفْتُ الْغَلَاءَ مِنَ الرُّخْصِ، وَاسْتَعْدَدْتُ لَهُ فِي الرُّخْصِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}، يَقُولُ: وَمَا مَسَّنِيَ الضُّرُّ {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}، يَقُولُ: مَا أَنَا إِلَّا رَسُولٌ لِلَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، أُنْذِرُ عِقَابَهُ مَنْ عَصَاهُ مِنْكُمْ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَأُبَشِّرُ بِثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ مِنْكُمْ. وَقَوْلُهُ: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، يَقُولُ: يُصَدِّقُونَ بِأَنِّي لِلَّهِ رَسُولٌ، وَيُقِرُّونَ بِحَقِيَقَةِ مَا جِئْتُهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلْتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، يَعْنِي بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ: آدَمَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قَالَ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، مِنْ آدَمَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: وَجَعَلَ مِنَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ آدَمُ، زَوْجَهَاحَوَّاءَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ. {وَحَمَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: حَوَّاءَ، فَجُعِلَتْ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}: لِيَأْوِيَ إِلَيْهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَلَذَّتِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}، فَلَمَّا تَدَثَّرَهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِمَا ظَهَرَ عَمَّا حَذَفَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ}، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ: فَلَمَّا تَغْشَاهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا حَمَلَتْ. وَقَوْلُهُ: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}، يَعْنِي بِ "خِفَّةِ الْحَمْل": الْمَاءُ الَّذِي حَمَلَتْهُ حَوَّاءُ فِي رَحِمِهَا مِنْ آدَمَ، أَنَّهُ كَانَ حَمْلَا خَفِيفًا، وَكَذَلِكَ هُوَ حَمْلُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ خَفِيفٌ عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَمَرَّتْ بِهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: اسْتَمَرَّتْ بِالْمَاءِ: قَامَتْ بِهِ وَقَعَدَتْ، وَأَتَمَّتِ الْحَمْلَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} قَالَ: لَوْ كُنْتُ امْرِءًا عَرَبِيًّا لَعَرَفْتُ مَا هِيَ؟ إِنَّمَا هِيَ: فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ}، اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَرَّتْ بِهِ} قَالَ: اسْتَمَرَّ حَمْلُهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} قَالَ: هِيَ النُّطْفَةُ وَقَوْلُهُ: {فَمَرَّتْ بِهِ}، يَقُولُ: اسْتَمَرَّتْ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَشَكَّتْ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَمَرَّتْ بِهِ} قَالَ: فَشَكَّتْ، أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}، فَلَمَّا صَارَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْحَمْلِ الَّذِي كَانَ خَفِيفًا، ثَقِيلًا وَدَنَتْ وِلَادَتُهَا. يُقَالُ مِنْهُ: "أَثْقَلَتْ فُلَانَة" إِذَا صَارَتْ ذَاتَ ثِقْلٍ بِحَمْلِهَا، كَمَا يُقَالُ: "أَتْمَرَ فُلَان": إِذَا صَارَ ذَا تَمْرٍ. كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}: كَبَرَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}، يَقُولُ: نَادَى آدَمُ وَحَوَّاءُرَبَّهُمَا وَقَالَا يَا رَبَّنَا، " {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الصَّلَاح" الَّذِي أَقْسَمَ آدَمُ وَحَوَّاءُعَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ إِنْ آتَاهُمَا صَالِحًا فِي حَمْلِحَوَّاءَ: لِنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ غُلَامًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، فِي قَوْلِهِ: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} قَالَ: غُلَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ بَشَرًا سَوِيًّا مَثْلَهُمَا، وَلَا يَكُونَ بَهِيمَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قَالَ: أَشْفَقَا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا دُونَ الْإِنْسَانِ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: أَشْفَقَا أَنْ لَا يَكُونَ إِنْسَانًا. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتِ امْرَأَةُ آدَمَ فَأَثْقَلَتْ، كَانَا يُشْفِقَانِ أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً، فَدَعَوَا رَبَّهُمَا: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا}، الْآيَةَ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْفَقَا أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، أُلْقِيَتْ الشَّهْوَةُ فِي نَفْسِهِ فَأَصَابَهَا، فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ أَصَابَهَا حَمَلَتْ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ تَحَرَّكَ فِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا، قَالَتْ: مَا هَذَا؟ فَجَاءَهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَ [لَهَا: إِنَّكِ حَمَلْتِ فَتَلِدِينَ! قَالَتْ: مَا أَلَدُّ؟ قَالَ]: أَتَرَيْنَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا نَاقَةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ ضَائِنَةً أَوْ مَاعِزَةً، أَوْ بَعْضَ ذَلِكَ! [وَيَخْرُجُ مَنْ أَنْفِكِ، أَوْ مِنْ أُذُنِكِ، أَوْ مِنْ عَيْنِكِ]. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِنِّي شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَأَطِيعِينِي وَسَمِّيهِ "عَبْدَ الْحَارِث" [وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ] تَلِدِي شِبْهَكُمَا مَثْلَكُمَا ! قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: هُوَ صَاحِبُنَا الَّذِي قَدْ عَلِمْتِ! فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ بِآخَرَ، فَجَاءَهَا فَقَالَ: أَطِيعِينِي وَسَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ-وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ وَإِلَّا وَلَدْتِ نَاقَةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ ضَائِنَةً أَوْ مَاعِزَةً، أَوْ قَتَلْتُهُ، فَإِنِّي أَنَا قَتَلْتُ الْأَوَّلَ! قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْهُ، فَسَمَّتْهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا}، يَقُولُ: شِبْهَنَا مِثْلَنَا {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} قَالَ: شِبْهُهُمَا مِثْلُهُمَ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}، كَبَرَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، جَاءَهَا إِبْلِيسُ، فَخَوَّفَهَا وَقَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا فِي بَطْنِكِ؟ لَعَلَّهُ كَلْبٌ، أَوْ خِنْزِيرٌ، أَوْ حِمَارٌ! وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ، أَوْ مَنْ قُبُلِكِ، أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ فَيَقْتُلُكِ؟ فَذَلِكَ حِينَ {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا}، يَقُولُ: مِثْلَنَا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَأَنَّهُمَا دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا بِحَمْلِحَوَّاءَ، وَأَقْسَمَا لَئِنْ أَعْطَاهُمَا مَا فِي بَطْنِحَوَّاءَ، صَالِحًا لَيُكَونَانِ لِلَّهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَ "الصَّلَاح" قَدْ يَشْمَلُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً: مِنْهَا "الصَّلَاح" فِي اسْتِوَاءِ الْخَلْقِ، وَمِنْهَا "الصَّلَاح" فِي الدِّينِ، وَ" الصَّلَاحُ " فِي الْعَقْلِ وَالتَّدْبِيرِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَا خَبَرَ عَنِ الرَّسُولِ يُوجِبُ الْحُجَّةَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِي "الصَّلَاح" دُونَ بَعْضٍ، وَلَا فِيهِ مِنَ الْعَقْلِ دَلِيلٌ، وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ كَمَا عَمَّهُ اللَّهُ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمَا قَالَا {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} بِجَمِيعِ مَعَانِي "الصَّلَاح". وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، فَإِنَّهُ: لَنَكُونَنَّ مِمَّنْ يَشْكُرُكَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ صَالِحًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا رَزَقَهُمَا اللَّهُ وَلَدًا صَالِحًا كَمَا سَأَلَا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا وَرَزَقَهُمَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الشُّرَكَاء" الَّتِي جَعَلَاهَا فِيمَا أُوتِيَا مِنَ الْمَوْلُودِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِي الِاسْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْحَوَّاءُلَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَنَذَرَتْ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَمِّيَنَّهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، فَعَاشَ لَهَا وَلَدٌ، فَسَمَّتْهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيِ الشَّيْطَان». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمَّى ابْنَهُ "عَبْدَ الْحَارِث". قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: سَمَّى آدَمُ ابْنَهُ: "عَبْدَ الْحَارِث". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحَصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْحَوَّاءُتَلِدُ لِآدَمَ، فَتُعَبِّدُهُمْ لِلَّهِ، وَتُسَمِّيهِ "عُبَيْدَ اللَّه" وَ" عَبْدَ اللَّهِ "وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيُصِيبُهُمُ الْمَوْتُ، فَأَتَاهَا إِبْلِيسُ وَآدَمَ، فَقَالَ: إِنَّكُمَا لَوْ تُسَمِّيَانِهِ بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ لَعَاشَ ! فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاه" عَبْدَ الْحَارِثِ "، فَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، إِلَى قَوْلِهِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ فِي آدَمَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، إِلَى قَوْلِهِ: (فَمَرَّتْ بِهِ)، فَشَكَّتُ: أَحَبَلَتْ أَمْ لَا {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} الْآيَةَ، فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا؟ أَمْ هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يَكُونُ؟ أَبَهِيمَةً يَكُونُ أَمْ لَا؟ وَزَيَّنَّ لَهُمَا الْبَاطِلَ، إِنَّهُ غَوِيٌّ مُبِينٌ. وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي، لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا، وَمَاتَ كَمَا مَاتَ الْأَوَّلَانِ! فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا "عَبْدَ الْحَارِث"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا وُلِدَ لَهُ أَوَّلُ وَلَدٍ، أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنِّي سَأَنْصَحُ لَكَ فِي شَأْنِ وَلَدِكَ هَذَا، تُسَمِّيهِ "عَبْدَ الْحَارِث" ! فَقَالَ آدَمُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَاعَتِكَ ! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ فِي السَّمَاءِ "الْحَارِث" قَالَ آدَمُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَاعَتِكَ، إِنِّي أَطَعْتُكَ فِي أَكْلِ الشَّجَرَةِ، فَأَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَنْ أُطِيعَكَ. فَمَاتَ وَلَدُهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَدٌ آخَرُ، فَقَالَ: أَطِعْنِي وَإِلَّا مَاتَ كَمَا مَاتَ الْأَوَّلُ ! فَعَصَاهُ، فَمَاتَ، فَقَالَ: لَا أَزَالُ أَقْتُلُهُمْ حَتَّى تُسَمِّيَهُ "عَبْدَ الْحَارِث". فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى سَمَّاهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، أَشْرَكَهُ فِي طَاعَتِهِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ، وَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ، وَلَكِنْ أَطَاعَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَشْرَكَ آدَمُ وَلَاحَوَّاءُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهُمَا وَلَدٌ، فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنْ سَرَّكُمَا أَنْ يَعِيشَ لَكُمَا وَلَدٌ فَسَمِّيَاهُ "عَبْدَ الْحَارِث" ! فَهُوَ قَوْلُهُ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} قَالَ: كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ إِلَّا مَاتَ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ وَلَدُكَ هَذَا، فَسَمِّهِ "عَبْدَ الْحَارِث" ! فَفَعَلَ قَالَ: فَأَشْرَكَا فِي الِاسْمِ، وَلَمْ يُشْرِكَا فِي الْعِبَادَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَعِيشُ لَهُمَا وَلَدٌ، فَأَتَاهُمَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُمَا: سَمِّيَاهُ "عَبْدَ الْحَارِث" ! وَكَانَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ، وَكَانَ شِرْكًا فِي طَاعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ شِرْكًا فِي عِبَادَةٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ: كَانَ لَا يَعِيشُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ وَلَدٌ. فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِذَا وُلِدَ لَكُمَا وَلَدٌ، فَسَمِّيَاهُ "عَبْدَ الْحَارِث" ! فَفَعَلَا وَأَطَاعَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ}، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلُهُ: {أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}،.. إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْحَوَّاءُفِي أَوَّلِ وَلَدٍ وَلَدَتْهُ حِينَ أَثْقَلَتْ، أَتَاهَا إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، فَقَالَ: يَاحَوَّاءُ، مَا هَذَا الَّذِي فِي بَطْنِكِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ مَنْ أَنْفِكِ، أَوْ مِنْ عَيْنِكِ، أَوْ مِنْ أُذُنِكِ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أَرَأَيْتِ إِنْ خَرَجَ سَلِيمًا أَمُطِيعَتِي أَنْتِ فِيمَا آمُرُكَ بِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِّيهِ "عَبْدَ الْحَارِث" ! وَقَدْ كَانَ يُسَمَّى إِبْلِيسُ الْحَارِثُ فَقَالَتْ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِآدَمَ: أَتَانِي آتٍ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنْ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ فَاحْذَرِيهِ، فَإِنَّهُ عَدُوُّنَا الَّذِي أَخْرَجَنَا مِنَ الْجَنَّةِ ! ثُمَّ أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَخْرَجَهُ اللَّهُ سَلِيمًا، فَسَمَّتْهُ "عَبْدَ الْحَارِث" فَهُوَ قَوْلُهُ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَابْنُ فَضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَشْرَكَ آدَمُ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَزْعُمَ أَنَّ آدَمَ أَشْرَكَ، وَلَكِنَّحَوَّاءَلَمَّا أَثْقَلَتْ، أَتَاهَا إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهَا: مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ هَذَا، مِنْ أَنْفِكِ، أَوْ مِنْ عَيْنِكِ، أَوْ مِنْ فِيكِ؟ فَقَنَّطَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتِ إِنْ خَرَجَ سَوِيًّا زَادَ ابْنُ فُضَيْلٍ: لِمْ يَضُرَّكِ وَلَمْ يَقْتُلْكِ أَتُطِيعِينِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَمِّيهِ "عَبْدَ الْحَارِث" ! فَفَعَلَتْ زَادَ جَرِيرٌ: فَإِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُ فِي الِاسْمِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَوَلَدَتْ غُلَامًا يَعْنِيحَوَّاءَ فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: سَمُّوهُ عَبْدِي وَإِلَّا قَتَلْتُهُ ! قَالَ لَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ أَطَعْتُكَ وَأَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ! فَأَبَى أَنْ يُطِيعَهُ، فَسَمَّاهُ "عَبْدَ الرَّحْمَن"، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِبْلِيسَ فَقَتَلَهُ. فَحَمَلَتْ بِآخَرَ، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ قَالَ لَهَا: سَمِّيهِ عَبْدِي وَإِلَّا قَتَلْتُهُ ! قَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ أَطَعْتُكَ فَأَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ! فَأَبَى، فَسَمَّاهُ "صَالِحًا" فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا أَنْ كَانَ الثَّالِثُ قَالَ لَهُمَا: فَإِذْ غَلَبْتُمُونِي فَسَمُّوهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، وَكَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ "إِبْلِيس" حِينَ أَبْلَسَ فَعَنَوَا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، يَعْنِي فِي التَّسْمِيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَعْنِيُّ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ بَنِي آدَمَ، جَعَلَا لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ حِينَ رَزَقَهُمَا مَا رَزَقَهُمَا مِنَ الْوَلَدِ. وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}: أَيْ هَذَا الرَّجُلُ الْكَافِرُ، {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} دَعَوْتُمَا اللَّهَ رَبَّكُمَا. قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا ابْتُدِئَ بِهِ الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، كَمَا قِيلَ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، [سُورَةُ يُونُسَ: 22] وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَلَمْ يَكُنْ بِآدَمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَنِيَ بِهَذَا ذُرِّيَّةَ آدَمَ، مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ بَعْدَهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} فِي الِاسْمِ لَا فِي الْعِبَادَةِ وَأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِذَلِكَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي قَوْلِهِ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؟ أَهْوَ اسْتِنْكَافٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ شَرِيكٌ، أَوْ فِي الْعِبَادَةِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: "فِي الْأَسْمَاء" دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}؟ فَإِنْ قُلْتَ: "فِي الْعِبَادَة"، قِيلَ لَكَ: أَفَكَانَ آدَمُ أَشَرَكَ فِي عِبَادِةِ اللَّهِ غَيْرَهُ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، لَيْسَ بِالَّذِي ظَنَنْتَ، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ فِيهِ: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَقَدْ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ قَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، يَقُولُ: هَذِهِ فَصْلٌ مِنْ آيَةِ آدَمَ، خَاصَّةً فِي آلِهَةِ الْعَرَبِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (شُرَكَاءَ)، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: "جَعَلَا لَهُ شِرْكًا" بِكَسْرِ الشِّينِ، بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ}، بِضَمِّ الشِّينِ، بِمَعْنَى جَمْعِ "شَرِيك". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ صَحَّتْ بِكَسْرِ الشِّينِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ: فَلَمَّا أَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ شِرْكًا لِأَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَلَمْ يَدِينَا بِأَنَّ وَلَدَهُمَا مِنْ عَطِيَّةِ إِبْلِيسَ، ثُمَّ يَجْعَلَا لِلَّهِ فِيهِ شِرْكًا لِتَسْمِيَتِهِمَا إِيَّاهُ بِ "عَبْدِ اللَّه"، وَإِنَّمَا كَانَا يَدِينَانِ لَا شَكَّ بِأَنَّ وَلَدَهُمَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَعَطِيَّتِهِ، ثُمَّ سَمَّيَاهُ "عَبْدَ الْحَارِث"، فَجَعَلَا لِإِبْلِيسَ فِيهِ شِرْكًا بِالِاسْمِ. فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "شِرْكًا"، صَحِيحَةً، وَجَبَ مَا قُلْنَا، أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ: جَعَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِ شِرْكًا. وَفِي نُزُولِ وَحْيِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: (جَعَلَا لَهُ)، مَا يُوضِحُ عَنْ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقِرَاءَةِ: (شُرَكَاءَ)، بِضَمِّ الشِّينِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ قَبْلُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَإِنَّمَا سَمَّيَا ابْنَهُمَا "عَبْدَ الْحَارِث"، وَ" الْحَارِثُ "وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: (شُرَكَاءَ)، جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ وَصَفَهُمَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمَا" {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} "، وَإِنَّمَا أَشْرَكَا وَاحِدًا! قِيلَ: قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُخْرِجُ الْخَبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، إِذَا لَمْ تَقْصِدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَلَمْ تُسَمِّهِ، كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 173] وَإِنَّمَا كَانَ الْقَائِلُ ذَلِكَ وَاحِدًا، فَأُخْرِجَ الْخَبَرُ مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، إِذْ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدَهُ، وَذَلِكَ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فَتَنْزِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفْسَهُ، وَتَعْظِيمٌ لَهَا عَمَّا يَقُولُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ، وَيَدَّعُونَ مَعَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ: هُوَ الْإِنْكَافُ، أَنْكَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَزَّ يَقُولُ: عَظَّمَ نَفْسَهُ وَأَنْكَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَمَا سَبَّحَ لَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ صَدَقَةَ يُحَدِّثُ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هَذَا مِنَ الْمَوْصُولِ وَالْمَفْصُولِ، قَوْلُهُ: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}، فِي شَأْنِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ: عَمَّا يُشْرِكُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَعْنِهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيَشْرَكُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ " {مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا}"، وَاللَّهُ يَخْلُقُهَا وَيُنْشِئُهَا؟ وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ لِلْخَالِقِ لَا لِلْمَخْلُوقِ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَوَلَدٌ، فَسَمَّيَاهُ "عَبْدَ اللَّه"، فَأَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فَقَالَ: مَا سَمَّيْتُمَا يَا آدَمُ وَيَاحَوَّاءُابْنَكُمَا؟ قَالَ: وَكَانَ وُلِدَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدٌ، فَسَمَّيَاهُ "عَبْدَ اللَّه"، فَمَاتَ. فَقَالَا سَمَّيْنَاهُ "عَبْدَ اللَّه". فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَتَظُنَّانِ أَنَّ اللَّهَ تَارِكٌ عَبْدَهُ عِنْدَكُمَا؟ لَا وَاللَّهِ، لِيَذْهَبِنَّ بِهِ كَمَا ذَهَبَ بِالْآخَرِ! وَلَكِنْ أَدُلُّكُمَا عَلَى اسْمٍ يَبْقَى لَكُمَا مَا بَقِيتُمَا، فَسَمِّيَاهُ "عَبْدَ شَمْس" ! قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، آلشَّمْسُ تَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَبْدٌ؟ إِنَّمَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَدَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ، خَدَعَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَخَدَعَهُمَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: (وَهْمْ يُخْلَقُونَ)، فَأَخْرَجَ مَكْنِيَّهُمْ مُخْرَجَ مَكْنِيِّ بَنِي آدَمَ، (أَيُشْرِكُونَ مَا)، فَأَخْرَجَ ذِكْرَهُمْ بِ "مَا" لَا بِ "مَن" مُخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ الَّذِي كَانُوا يَعْبُدُونَهُ إِنَّمَا كَانَ حَجَرًا أَوْ خَشَبًا أَوْ نُحَاسًا، أَوْ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُخْبَرُ عَنْهَا بِ "مَا" لَا بِ "مَن"، فَقِيلَ لِذَلِكَ: "مَا"، ثُمَّ قِيلَ: "وَهُم"، فَأُخْرِجَتْ كِنَايَتُهُمْ مُخْرَجَ كِنَايَةِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْهَا بِتَعْظِيمِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهَا، نَظِيرَ الْخَبَرِ عَنْ تَعْظِيمِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُشْرِكُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ سُوءًا، أَوْ أَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَةً، وَلَا هُوَ قَادِرٌ إِنْ أَرَادَ بِهِ سُوءًا نَصْرَ نَفْسِهِ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ عَنْهَا؟ وَإِنَّمَا الْعَابِدُ يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُهُ لِاجْتِلَابِ نَفْعٍ مِنْهُ أَوْ لِدَفْعِ ضُرٍّ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَآلِهَتُهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَيُشْرِكُونَهَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَا تَنْفَعُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ، بَلْ لَا تَجْتَلِبُ إِلَى نَفْسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، فَهِيَ مِنْ نَفْعِ غَيْرِ أَنْفُسِهَا أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا أَبْعَدُ؟ يُعَجِّبُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلْقَهُ مِنْ عَظِيمِ خَطَأِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمُ اللَّهَ غَيْرَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي وَصْفِهِ وَعَيْبِهِ مَا يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ رَبَّهُمْ إِيَّاهُ: وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْأَمْرِ الصَّحِيحِ السَّدِيدِ لَا يَتَّبِعُوكُمْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَعْقِلُ شَيْئًا، فَتَتْرُكَ مِنَ الطُّرُقِ مَا كَانَ عَنِ الْقَصْدِ مُنْعَدِلًا جَائِرًا، وَتَرْكَبُ مَا كَانَ مُسْتَقِيمًا سَدِيدًا. وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِوَصْفِ آلِهَتِهِمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا، تَنْبِيهَهُمْ عَلَى عَظِيمِ خَطَئِهِمْ، وَقُبْحِ اخْتِيَارِهِمْ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَكَيْفَ يَهْدِيكُمْ إِلَى الرَّشَادِ مَنْ إِنْ دُعِيَ إِلَى الرَّشَادِ وَعُرِّفَهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَلَمْ يَفْهَمْ رَشَادًا مِنْ ضَلَالٍ، وَكَانَ سَوَاءً دُعَاءُ دَاعِيهِ إِلَى الرَّشَادِ وَسُكُوتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ دُعَاءَهُ، وَلَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ، وَلَا يَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهُ. يَقُولُ: فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ، أَمْ كَيْفَ يُشْكِلُ عَظِيمُ جَهْلِ مَنِ اتَّخَذَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ إِلَهًا؟ وَإِنَّمَا الرَّبُّ الْمَعْبُودُ هُوَ النَّافِعُ مَنْ يَعْبُدُهُ، الضَّارُّ مَنْ يَعْصِيهِ، النَّاصِرُ وَلِيَّهُ، الْخَاذِلُ عَدُوَّهُ، الْهَادِي إِلَى الرَّشَادِ مَنْ أَطَاعَهُ، السَّامِعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ. وَقِيلَ: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}، فَعَطَفَ بِقَوْلِهِ: "صَامِتُون"، وَهُوَ اسْمٌ عَلَى قَوْلِهِ: "أَدَعَوْتُمُوهُم"، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَلَمْ يُقَلْ: أَمْ صَمَتُّمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: سَوَاءٌ عَلَيْكَ النَّفْرُ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً *** بِأَهْلِ الْقِبَابِ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عَامِرِ وَقَدْ يَنْشُدُ: "أَمْ أَنْتَ بَائِت".
|